تغيرت لدي الكثير من القناعات والمفاهيم بعد أول زيارة لي لأرض الوطن.فيما مضى، كان تصوري عن الوطن أنه أرض جرداء غير قابلة للعيش،ولكن تبددت تلك الصورة السوداء القاتمة بمجرد أن لمحت أطراف أنجمينا من نافذة الطائرة.
إنها جنة الله في الأرض، سهول ممتدة تكسوها الخضرة حيثما التفت،والحشائش الخضراء تغطي الأرض كأنها بساط أخضر بديع، والمياه تشق طريقها بين التلال، وتتدفق وسط الحشائش، أينما وجهت نظرك لا ترى إلا الألوان الزاهية وجمال الحياة.
وتوقفت فجأة عن الاسترسال، حين اقتربنا من الأرض، وظهرت أسقف بيوت الصفيح، وكأنها رسالة إنذار: “أنت تقترب أكثر مما ينبغي! أنت تقترب أكثر!”
أهلًا بك في أنجمينا سيتي.
في المطار، كان الاستقبال على أحسن ما يكون. معظم الموظفين في المطار يتعاملون بطريقة حسنة جدًّا، وسريعة في إنهاء الإجراءات. في مطار دبي، استغرقتُ 20 دقيقة لإنهاء المعاملة، وفي مطار إثيوبيا 40 دقيقة، ولكن في تشاد فقط 15 دقيقة!
وهذه الدقائق كانت بسبب ورقة استمارة باللغة الفرنسية، طُلب مني تعبئتها،
وتعذر عليّ ذلك، فطلبت من أحد العساكر المساعدة، وبكل رحابة صدر، قام بتعبئة الاستمارة، وحين هممت بتقديم مبلغ له، ابتسم وذهب دون أن ينظر حتى إلى المبلغ.وكأنهم يقولون بصدق: “أهلًا بك في وطنك، وكفى”.وهذه كانت من البشائر. وصادف وصولي احتفال المواطنين بمغادرة القوات الفرنسية،
وعلى الجانب الآخر، فعاليات موسم “داري”
الذي يُعد من أكثر المهرجانات تنظيمًا للثقافات المختلفة في بلادنا.
وكان الاستقطاب في أوجه، بين المؤيدين والرافضين للمهرجان. فكانت لحظة مهمة في توقيت الوصول، وتجربة رائعة ومشجعة بالنسبة لي.
كما أن تواجد الأمن بكثافة، وفي كل مكان، أمر مريح للزائرين، ويعطي انطباعا جيدًا.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك اطمئنانًا منقطع النظير في الشارع، بفضل إدارة الجنرال علي أحمد أغبش للملف الأمني في البلاد.
هذا ما سمعته وأنا في طريقي إلى المنزل.الكل يشيد بجهوده.
وبشكل عام، شعبنا شعب بسيط طيب، يعيشون بمختلف الأجناس والأديان في تعايش سلمي قل أن تجد له مثيلًا.
ويغلب على طابعهم الفكاهة في الحديث، في كل شيء. في الصباح الباكر، تجدهم كأفواج الحجيج، يتوجهون نحو الأسواق، وكأنهم في سباق مع الزمن، وبمجرد أذان المغرب، يعودون أدراجهم راجعين إلى بيوتهم.
وهكذا يتكرر المشهد كل صباح ومساء. ما لفت نظري أن بلادنا جميلة جدًّا، وقابلة للنهوض بشكل أسرع مما نتخيل،
وأن عجلة التنمية في الوطن قد انطلقت.بالعربي: “تلحق ما تلحق”.
وهناك نقطة مهمة جدًّا ومفقودة، يجب التركيز عليها في المرحلة القادمة.
وهذه رسالتي إلى المسؤولين في الدولة أولًا،
وإلى أبناء وطني ثانيًا، وأتمنى أن تصل رسالتي بالشكل المطلوب.
إن مسألة بناء دولة قوية اقتصاديًّا، وسياسيًّا، ورياضّيًا، وثقافيًّا، وعمرانيًّا تتطلب منا العمل الجاد معًا للوصول إليها. وهنا أعني الدولة بشقيها: الحكومي والمدني.يجب مراعاة تحديد المسؤوليات من الطرفين، كلٌّ على حدة.
فهناك دور منوط بالحكومة، يتمثل في مساعدة المواطن في بناء الوطن والنهضة العمرانية،
وهناك دور آخر لا يقل أهمية، يقع على عاتق المواطن تجاه وطنه، يجب القيام به.وعلى الطرفين، المدني والحكومي، القيام بواجباتهم لأجل نهضة هذا الوطن.
وسوف نبدأ الحديث بالجانب الحكومي أولًا:
على الدولة أن تعمل جديًّا في دعم وتشجيع المواطن، وتذليل كل الصعاب التي تقف حاجزًا أمامه لبناء وطنه.
وعندما نتحدث عن نهوض أي دولة، فلا شك أن عمران الدولة يأتي في مقدمة كل شيء،
ولن يتحقق ذلك في ظل غياب المعايير الأساسية الداعمة.
وهنا أتحدث عن معايير البناء السليم، وإزالة العقبات التي تواجه المواطن حين يريد بناء منزل صالح للعيش فيه.
يجب أن نعترف أنه لا رفاهية للمواطن في أرض يعيش فيها حياة البؤساء،ويسكن منزلًا سقفه من صفيح، كما هو الحال في معظم الأماكن في بلادنا. يجب أن يعيش المواطن أولًا بحالة مزاجية جيدة، وفي بيت سعيد،
لكي يستطيع أن يفكر ويبدع وينتج، بعد ذلك، في بناء مجتمع جميل وراقٍ.
الرُقي أساس الرفاهية، والرفاهية جزء من حالة العيش المستقر، ولذلك لا بد من معالجة هذه المشكلة قبل كل شيء. وحين نريد حلًا لهذه المعضلة، علينا تشجيع المواطن، ودعمه، وإزاحة المسببات الأساسية التي تجبره على اللجوء إلى بناء بيوت الصفيح غير الصالحة.
في حين أن المبلغ المدفوع لبناء بيت من الصفيح يعادل تقريبًا المبلغ المطلوب لبناء بيت مريح يحفظ كرامته وأمنه واستقراره.
الفرق هنا فقط في تسعيرة مواد البناء، وهنا بيت القصيد.
فعلى وزارة التجارة العمل على خفض أسعار مواد البناء، ويجب أن تكون هذه المعركة هي معركتها في المرحلة القادمة.
إن هذه النقطة أمر جوهري لبناء مجتمع راقٍ مرهف، وحل هذه المعضلة ليس بالأمر الصعب أبدًا، بل باستطاعة الحكومة وضع حد لها في ثلاث حالات فقط:
- أن تسمح الدولة للشركات الأجنبية المنافسة بالاستثمار في تشاد، مع تقديم التسهيلات اللازمة لبناء المنشآت والمصانع.
. - أن تخفض الدولة الضريبة الجمركية على الاستيراد.
. - الضغط على موردي مواد البناء، وخصوصًا الإسمنت والحديد، وإجبارهم على تحديد أسعار معقولة كباقي الدول،
للسماح للمواطن ببناء منازله الخاصة ومنشآته التجارية والصحية، والمساهمة في بناء وطنه.
بل إن هذه الخطوة تعزز الدورة الاقتصادية، والنهضة العمرانية، وتخفف على الحكومة الكثير من النفقات المالية، من إصلاح الطرق وإزالة العقبات، لأن المنشآت الحديثة تحفظ مرافقها من التشوهات الإنشائية، وتساعد في حفظ جمالية المكان. وليس من المعقول أبدًا أن يدفع المواطن أضعاف أضعاف ما يدفعه أي مواطن آخر في العالم، لكي يحصل على كيس إسمنت واحد بأسعار مضاعفة أكثر من خمس مرات، في حين نجد في أغنى بلدان العالم أسعارًا زهيدة، رغم القدرة الشرائية العالية.
ولذلك، نجد الفرق شاسعًا في البنيان بيننا وبينهم، في حين أننا نستطيع الوصول إلى تلك المرحلة من البناء، فقط لو أحدثنا بعض التغييرات فيما يخص بنود المواد الإنشائية.
فالشعب التشادي يحب وطنه، وعلى الوطن أن يبادله المحبة.
النقطة الثانية: دور المواطن لا يقل أهمية.
إن مسألة الجشع لا تعود بالخير على الوطن، ويجب أن ندرك جميعًا ذلك جيدًا.
على المواطن تقديم مصلحة البلاد والعباد على حب الذات، ويسعى فعليًّا ليكون جزءًا من البناء، وألا ينتظر من الحكومة أن تفعل كل شيء،
فالدول تبنيها سواعد أبنائها، وليس الحكومات.والمشاهد من العمران والحضارات في الدول المتقدمة تقف خلفها أبناؤها من المستثمرين ورجال الأعمال، وبالكاد تجد برجًا واحدًا تملكه الدولة،إنما الملاك هم أصحاب الشركات من المواطنين والمستثمرين الذين وجدوا البيئة الخصبة لوضع أسس بنيانهم. لذلك، وجب على الطرفين، الحكومي والمدني، العمل معًا،
لجعل عاصمتنا درة العواصم. وهنا أخص بالذكر أيضًا الدور الهام والكبير الذي يقع على عاتق المهاجرين من أبناء الوطن،
من الكفاءات العلمية ورجال الأعمال.
يجب الالتفاف إلى الوطن أكثر من أي وقت مضى، وتحمُّل المسؤولية التشاركية لبناء دولة حديثة.
ويجب أن نعلم أن الغربة، مهما كانت موفّرة لكل الاحتياجات اللازمة للعيش الكريم،
تظلّ الوطن هو الحضن الدافئ والآمن لنا، مهما طال الزمن. ولا يهنأ الإنسان أبدًا في بلاد الغربة، وتلك حقيقة نعلمها نحن معشر المهاجرين جيدًا، أكثر من غيرنا،
ولذلك، فإن العمل لأجل العودة، في كل ساعة، هو نقطة تحول يجب وضعها في أولويات جداولنا اليومية.
بقلم /عيسى آل هليكي
