المغرب يصف تقرير هيومن رايتس ووتش.. بانحراف حقوقي

منذ بدأت عملها تحت اسم “هلسنكي ووتش” سنة 1978 تقوم منظمة “هيومن رايتس ووتش” بعمل جيد في العديد من الدول بإنجازها لتقارير حول وضعية حقوق الإنسان وكل ما يرتبط بهذا المجال من قضايا بما في ذلك العدالة الدولية والسجون وحقوق الطفل والمرأة واللاجئين، والحيلولة دون توريط الأطفال في الحروب وتجنديهم، وكذا مكافحة الألغام الأرضية…

ومكن عدد من الخبراء والمحللين التي كانت المنظمة تستعين بهم من تسليط الضوء على الكثير من الانتهاكات في العالم انطلاقا من الدول السوفييتية وأمريكا اللاتينية إلى انتهاكات البوسنة ثم التوتسي والهوتو وانتهاكات المسيحيين والمسلمين في جزر أندونيسيا، وغيرها من الدول التي عاش مواطنوها القمع والتنكيل ومصادرة حقوقهم، غايتها هو عدم تكرار مثل هذه المآسي.

مهام نبيلة.. لولا أن تسييس بعض القضايا والتعامل بخلفيات معينة وأحكام مسبقة مع بعضها الآخر، يفسد أحيانا الأهداف الإنسانية التي تعتبر من أهم مبادئ المنظمة.

بالنسبة للمغرب تضبط المنظمة ساعتها على المناسبات الوطنية الكبرى وكأنها تصر على تحميل تقاريرها رسائل معينة، وذلك في الوقت الذي تحتفل فيه البلاد بالخطوات التي قطعتها قدما من أجل تحديث مؤسساتها وتقييم إنجازاتها، وأيضا بكل موضوعية تقديم نقدها الذاتي الذي يحرك فيها الرغبة في تحسين الأوضاع، وهو ما تحفل به الخطب الملكية بكل جرأة وشجاعة في مثل هذه المناسبات، وتقترح كذلك البدائل من أجل الرقي والازدهار.

آخر تقارير “الإدانة المسبقة” الذي نشرته “هيومن رايتس ووتش” جاء طويلا يتجاوز عدد صفحاته 140 صفحة، وكأن الأمر هنا يتعلق ببلد يعرف مجازر يومية وتمتلأ شوارعه بضحايا القمع والانتهاكات الجسيمة.

جاء التقرير مرفوقا بتقرير آخر “تركيبي”، وما هو كذلك، ينصب حصريا على حالات معدودة، بعضها لصحافيين، اختارتهم المنظمة بدقة للاستدلال على أحكامها المسبقة.

وقد كان من الممكن الوقوف عند هذه الحالات لولا أنها أخذت حيزا كبيرا من الشرح والتدقيق في وسائل الإعلام وعدد من المؤسسات الوطنية، لاسيما أنها كلها حالات عرضت على القضاء، وقال كلمته فيها بعد محاكمات أجمع الملاحظون أنها استوفت الشروط الضرورية وتمكن فيها المتهمون الدفاع عن أنفسهم قبل إصدار الأحكام.

لم تشر المنظمة إطلاقا إلى أنها اطلعت على تقارير المجلس الوطني لحقوق الانسان المتعلقة بهذا الموضوع ولا إلى تقارير المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان ولا إلى بيانات النقابة الوطنية للصحافة وغيرها من التقارير التي واكبت المحاكمات، وانتهت إلى احترام الضمانات القانونية المعمول بها في العدالة الجنائية.

وقبل أن تستعرض الحالات المذكورة التي تعتبر أنها تعرضت لانتهاكات طالت أيضا حرية التعبير، تقدم المنظمة بشكل متحامل ما تعتبره دليلا تقنيا للقمع بالمغرب(!)، وهو ما يعني قصد وإصرار على الانتهاكات بشكل يجعلها ممنهجة، بل أكثر من ذلك تبتكر المنظمة مفهوما جديدا في العدالة الجنائية عندما تعتبر أن الجنس في المغرب أصبح بمثابة عقوبة تطال “المعارضين”، ولتجنب ذلك تدعو ببساطة إلى حذف التهم الجنسية من القانون الجنائي المغربي، علما أن ذلك أمر موكول للسلطتين التشريعية والتنفيذية.

وحتى لدى استعمالها لمصطلح “المعارضون” الذي تقرنه بالقمع المزعوم الذي تتعرض له حرية التعبير، فإن المنظمة تتغاضى على ما تعج به مواقع التواصل الاجتماعي من حرية تمادت أحيانا وتجاوزت التعبير إلى أشياء أخرى لا علاقة لها بالتعبير عن الرأي، في الوقت الذي مازالت فيه وسائل الإعلام التقليدية تنشر الأراء المخالفة للحكومة وللنظام عموما والتي تقدم بشكل لبق وتقترح أحيانا بدائل لعديد من الاختلالات، دون أن تطال أصحابها أية عقوبات مادام احترام القانون هو أساس النقاش العمومي.

وعلى ذكر الإعلام فإن المنظمة لم تخجل هذه المرة من خرق كل آليات التحقيق والتقرير الحقوقي لتنصب نفسها القاضي والجلاد وتدين مؤسسات إعلامية بذاتها معتبرة أنها مؤسسات “مخزنية”، وهو دور جديد على المنظمات الحقوقية التي كانت تقف في وجه الأنظمة القمعية والاستبدادية لتصبح اليوم وجها لوجه أمام الإعلام نفسه الذي تدعي أنها تدافع عن أهم مبادئه وهو حرية التعبير، وتخرق هي نفسها هذا المبدأ عندما تهاجم ثلاث مقاولات إعلامية مغربية (موقع 360 وشوف تيفي وبرلمانكم) قامت بدورها في الإخبار احتراما لمبدأ “الخبر مقدس والتعليق حر”.

أما المعارضون الذين تدافع عنهم المنظمة فهم أشخاص وقفوا أمام القضاء ليس بسبب معتقداتهم وقناعاتهم وصفاتهم، ولكن بسبب جنح وجنايات ارتكبوها، قد تكون اعتداءا جنسيا أو عنفا أو فسادا أو غسيلا للأموال، لكنها ليست بأية حال حرية للتعبير يكفلها الدستور والقانون وتراقبها المنظمات الحقوقية الوطنية، وبذل المغرب مجهودا كبيرا لحمايتها وباقي الحقوق المدنية من خلال إحداث مؤسسات ترعاها وتعمل على تجويدها.

تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، الذي يفتقد للسند العلمي والقانوني والواقعي، جاء كمقال رأي طويل منقسم إلى أجزاء وتضمن قصصا سبق التطرق لها وتمت إعادة صياغتها بشكل مختلف لا تحمل أي جديد أو دليل يمكن أن يعتبر تحقيقا فعليا تستطيع المنظمة من خلاله أن تغير واقعا مفترضا ما.

لقد اعتنى كاتب التقرير بالشكل أكثر من المضمون فقام بتقسيمه بعناية ووضع عناوين مغرية لكل فرع، لكنها لم تكن أبدا، تعكس المضمون الذي بدا وكأنه مجرد انطباعات لشخص يجيد لعبة “البازل” ويرتب قطعها بعناية حتى يتمكن من بلوغ الصورة التي يحتفظ بها مسبقا، والتي يضعها نصب عينيه.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •