وقعت ليلةُ الإسراءِ والمِعراج بحسبِ المشهور من الرّوايات في السّابعِ والعشرينَ من شهرِ رجب في السنة الثانيةَ عشرة من البعثةِ النّبوية، وهيَ ليلةٌ مميزةٌ في التّقويمِ الإسلاميّ، أُسرِيَ فيها برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى على ظَهرِ دابَّةٍ أرسلها الله -سبحانه وتعالى- إليه، وتُسمّى البُراق، وبرفقةِ جبريل -عليه السلام- وصلا معاً إلى المسجد الأقصى وذلك في جزءٍ من الليل، حتّى عُرِجَ بهما بعدها إلى السّماوات العُلا من هناك انتهاءً إلى بلوغِهم سدرة المنتهى، ورجع إلى البيت الحرامِ من جديد في نفسِ تلك الليلة.
تزامن وقوعُ هذه المُعجزة مع أحداثٍ مؤلمةٍ عانى منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ كانت قُريش قد فرضت عليهم حِصاراً، وتُوُفّيَ عمُّه أبو طالب الذي كانَ يعصمه ويُدافِع عنه أمامَ قريشٍ، وكانت قد تُوفّيت زوجته خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، كما كان قبل ذلك خروجه إلى الطائف ورميهم إياهُ بالحجارة، فأتت هذه الرحلة الروحانية الكريمة مواساةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتثبيتاً له، واختباراً لإيمانِ الصّحابة الكِرام.
ثبتَ أمرُ هذه اللّيلةِ في النّصوص الشّرعية، إذ سُمَّيت بها سورةٌ في القرآنِ الكريمِ وهي سورةُ الإسراءِ، وجاءَ في مطلَعِها قوله -تعالى-: (سُبحانَ الَّذي أَسرى بِعَبدِهِ لَيلًا مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذي بارَكنا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصيرُ).
كما جاءَ في صحيحِ مُسلم أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في هذا الشّأنِ: (أُتِيتُ بالبُراقِ، وهو دابَّةٌ أبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ، يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قالَ: فَرَكِبْتُهُ حتَّى أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، قالَ: فَرَبَطْتُهُ بالحَلْقَةِ الَّتي يَرْبِطُ به الأنْبِياءُ، قالَ ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فيه رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ بإناءٍ مِن خَمْرٍ، وإناءٍ مِن لَبَنٍ، فاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فقالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ).
الحكمة من الإسراء والمعراج
تظهرُ الحكمة من وقوعِ حادثةِ الإسراء والمعراج في أمورٍ عدّة، نذكر منها ما يأتي: الحكمةُ الأولى: لبيانِ فضل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومكانته عند الله -عزَّ وجلَّ-؛ إذ وصَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحلته إلى مكانٍ ومنزلةٍ لم يَصلها غيره قَط مِن رُسلٍ أو ملائكة، حتّى أنّه كانَ يَسمعُ صوتَ صَريف الأقلام، كما أنّه صلّى إماماً بالأنبياءِ جميعهم في المسجدِ الأقصى، وفي اصطفائه للإمامة تشريفٌ له عليهم، لتكونَ هذه الرّحلة من معجزاته وفضائلهِ التي لم يَسبق لأحدٍ قط من الأنبياء وُلُوجها، كما أنّ في إمامته عليهم؛ إشارةً إلى توحيدِ رسالاتهم جميعاً، وأنّ شريعته -صلى الله عليه وسلم- ناسِخةٌ لشرائعهم، فهم يقتدونَ به، وعلى أتباعهم فعل ذلك.
الحكمة الثانية:
لمواساةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ذكرنا فيما تَقدَّم ما عانى منه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في تلك الفترة، فجاءت حادثة الإسراء والمِعراج تخفيفاً له ولمن حوله، ورفعاً لمعنويّاتِهم، وتأييدهم بجملةٍ من الرُؤى المستقبليّة.
الحكمة الثالثة:
تعليماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياءً عن الغيبِ حتّى يُبلِّغها بيقينٍ؛ فالبَشَرُ بطبيعتهم يَميلونُ إلى السؤالِ عمّا هو مجهولٌ، والغيبُ عالمٌ لا يُدركهُ الإنسانُ بعقله ولا سبيلَ له إلى تصوُّرهِ سوى بالنّقلِ، إذ رأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الجنّة والنّار، وصَعد إلى السماوات وشاهدها بتفاصيلها، ثمّ وبفضلِ هذه الحادثة أصبحت أمّة محمّد -صلى الله عليه وسلم- تحمِلُ كنزاً من الغيبِ يدفعها نحوَ الأمامِ ولا يزيدها إلا تثبيتاً وثباتاً على الحقِّ.
الحكمة الرابعة:
ليَرى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من آياتِ الله العظيمةَ الدّالّة على وحدانيته وقُدرته وصِدقِ وَحيه؛ إذ يُرِي الله -عزَّ وجلَّ- رسولهُ الكريمَ الجنّة وشيئاً من نعيمها وهي وَعْدهُ الحقُّ للمؤمنين، كما أراه النّارَ وشيئاً من وعيدِها، وهي وَعْدهُ الحقُّ للظالمينَ والمشركين.
الحكمة الخامسة:
تجهيزُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لملاقاةِ ربّه بشقّ الصّدر؛ إذ يروي الإمامُ مسلم في صحيحه أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (فُرِجَ سَقْفُ بَيْتي وأنا بمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِن ماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جاءَ بطَسْتٍ مِن ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وإيمانًا فأفْرَغَها في صَدْرِي، ثُمَّ أطْبَقَهُ، ثُمَّ أخَذَ بيَدِي فَعَرَجَ بي إلى السَّماءِ)، والمغزى أنّه غسل قلبه فلم يبقَ فيه شيءٌ إلّا الإيمان.
الحكمة السادسة:
تشريفُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصعوده على البُراق؛ فالبُراقٌ كما تقدم، مخلوقٌ من مخلوقاتِ الجنّة، وهو كحصانِ الطائِر دونَ تشبيهٍ، ولا شكَّ أنّ في إرساله خصيصاً ليحملَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الأعلى فيه تشريفٌ وتعظيمٌ لشأنِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-.
الحكمة السابعة:
دلالةُ اختياره للمسجد الأقصى ليكونَ مسرى رسوله الكريم؛ فالمسجدُ الأقصى هو أولى القبلتين، وله قداسةٌ ومكانةٌ في نفوسِ المسلمين، ولعلّ اختياره ليكونَ مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأكيداً لهذه القداسة وتمكيناً لها، وهي دعوةٌ إلى شدّ الرّحالِ إليهِ، والدّفاعُ عنه، وتحريره.
الحكمة الثامنة:
في الإسراءِ والمعراجِ إعلانٌ لعموميةِ الرّسالة التي جاءَ بها الإسلام وشمولها وصلاحها لكلِّ زمانٍ ومكان؛ إذ يتضمّن ما جرى من جعْل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إماماً لهذه البشرية بإمامته للرُّسل جميعهم في الصّلاة، لتكونَ بذلكَ رسالته عالميةً ناسخةً لجميع الرسالات مِنَ الشّرق إلى الغرب، فهو خاتِمهم وأفضلهم، ووَصَل إلى منزلةٍ عاليةٍ لم يصلها أحدٌ سواه، لا مَلَكٌ مُقرب ولا نبيٌ مرسل، فهو خير البَرِيّة وأفضلُ الخلق -صلواتُ الله وسلامه عليه-.
المصدر / نقلا عن / صحيفة اليبان الإماراتية